الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وذكر ابن المبارك من حديث أبي أمامة عن الرسول قاله في قوله: {ويسقى من ماء صديد يتجرعه} قال: «يقرب إليه فيتكرهه، فإذا أدنى منه شوى وجهه ووقعت فروة رأسه، وإذا شربه قطع أمعاءه حتى يخرج من دبره» يتجرعه يتكلف جرعه.ولا يكاد يسيغه أي: ولا يقارب أن يسيغه، فكيف تكون الإساغة.والظاهر هنا انتفاء مقاربة إساغته إياه، وإذا انتفت انتفت الإساغة، فيكون كقوله: {لم يكد يراها} أي لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ والحديث: «جاءنا ثم يشربه» فإن صح الحديث كان المعنى: ولا يكاد يسيغه قبل أن يشربه ثم شربه، كما جاء {فذبحوها وما كادوا يفعلون} أي وما كادوا يفعلون قبل الذبح.وتجرع تفعل، ويحتمل هنا وجوهًا أن يكون للمطاوعة أي جرعة فتجرع كقولك: علمته فتعلم.وأنْ يكون للتكلف نحو: تحلم، وأن يكون لمواصلة العمل في مهلة نحو: تفهم أي يأخذه شيئًا فشيئًا.وأن يكون موافقًا للمجرد أي: تجرعه كما تقول: عدا الشيء وتعدّاه.ويتجرعه صفة لما قبله، أو حال من ضمير ويسقى، أو استئناف.ويأتيه الموت أي: أسبابه.والظاهر أنّ قوله: {من كل مكان} معناه من الجهات الست، وذلك لفظيع ما يصيبه من الآلام.وقال إبراهيم التيمي: من كل مكان من جسده، حتى من أطراف شعره.وقيل: حتى من إبهام رجليه، والظاهر أنّ هذا في الآخرة.وقال الأخفش: أراد البلايا التي تصيب الكافر في الدنيا، سماها موتًا وهذا بعيد، لأنّ سياق الكلام يدل على أنّ هذا من أحوال الكافر في جهنم.وقوله: {وما هو بميت} لتطاول شدائد الموت، وامتداد سكراته.ومن ورائه الخلاف في من ورائه كالخلاف في من ورائه جهنم.وقال الزمخشري: ومن بين يديه عذاب غليظ أي: في كل وقت يستقبله يتلقى عذابًا أشد مما قبله وأغلظ.وعن الفضيل: هو قطع الأنفاس وحبسها في الأجساد انتهى.وقيل: الضمير في ورائه هو يعود على العذاب المتقدم لا على كل جبار.{مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ}الرماد معروف، وقال ابن عيسى: هو جسم يسحقه الإحراق سحق الغبار، ويجمع على رمد في الكثرة وأرمدة في القلة، وشذ جمعه على أفعلاء قالوا: أرمداء، ورماد رمدد إذا صار هباء أرق ما يكون.{مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ذلك هو الضلال البعيد}: ارتفاع مثل على الابتداء، وخبره محذوف تقديره عند سيبويه.فيما يتلى عليكم، أو يقص.والمثل مستعار للصفة التي فيها غرابة، وأعمالهم كرماد جملة مستأنفة على تقدير سؤال كأنه قيل: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد، كما تقول: صفة زيد عرضه مصون، وماله مبذول.وقال ابن عطية: ومذهب الكسائي والفراء أنه على إلغاء مثل، وأنّ المعنى: الذين كفروا أعمالهم كرماد.وقال الحوفي: مثل رفع بالابتداء، وأعمالهم بدل من مثل بدل اشتمال.كما قال الشاعر:
وكرماد الخبر.وقال الزمخشري: أو يكون {أعمالهم} بدلًا من {مثل الذين كفروا} على تقدير: مثل أعمالهم، وكرماد الخبر.وقال ابن عطية: وقيل هو ابتداء، و{أعمالهم} ابتداء ثان، و{كرماد} خبر للثاني، والجملة خبر الأول.وهذا عندي أرجح الأقوال، وكأنك قلت: المتحصل مثالًا في النفس للذين كفروا هذه الجملة المذكورة وهي أعمالهم في فسادها وقت الحاجة، وتلاشيها كالرماد الذي تذروه الريح، وتفرقه بشدتها حتى لا يبقى له أثر، ولا يجتمع منه شيء انتهى.وهذا القول الذي رجحه ابن عطية قاله الحوفي، وهو لا يجوز، لأن الجملة الواقعة خبرًا عن المبتدأ الأول الذي هو مثل عارية من رابط يعود على المثل، وليست نفس المبتدأ في المعنى، فلا تحتاج إلى رابط.وأعمال الكفرة المكارم التي كانت لهم من صلة الأرحام، وعتق الرقاب، وفداء الأسارى، وعقر الإبل للأضياف، وإغاثة الملهوفين، والإجارة، وغير ذلك.شبهها في حبوطها وذهابها هباءً منثورًا لبنائها على غير أساس من معرفة الله والإيمان به، وكونها لوجهه برماد طيرته الريح العاصف.وقرأ نافع، وأبو جعفر: الرياح على الجمع، والجمهور على الأفراد.ووصف اليوم بقوم عاصف، وإن كان من صفة الريح على سبيل التجوز، كما قالوا: يوم ما حل وكيل نائم.وقال الهروي: التقدير في يوم عاصف الريح، فحذف لتقدم ذكرها كما قال الشاعر: يريد كاسف الشمس.وقيل: عاصف من صفة الريح، إلا أنه لما جاء بعد اليوم اتبع إعرابه كما قيل: جحر ضب خرب، يعني: إنه خفض على الجوار.وقرأ ابن أبي إسحاق، وإبراهيم بن أبي بكر عن الحسن: في يوم عاصف على إضافة اليوم لعاصف، وهو على حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه، تقديره: في يوم ريح عاصف.وتقدم تفسير العصوف في يونس في قوله: {جاءتها ريح عاصف} وعلى قول من أجاز إضافة الموصوف إلى صفته يجوز أن تكون القراءة منه: لا يقدرون يوم القيامة مما كسبوا من أعمالهم على شيء، أي: لا يرون له أثرًا من ثواب، كما لا يقدر من الرماد المطير بالريح على شيء.وقيل: لا يقدرون من ثواب ما كسبوا، هو على حذف مضاف.وفي الصحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنّ ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم، ويطعم المسكين، هل ذلك نافعه؟ قال: «لا ينفعه لأنه لم يقل رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين» وفي الصحيح أيضًا: «إن الكافر ليطعم بحسناته في الدنيا ما عمل لله منها» ذلك إشارة إلى كونهم بهذه الحال.وعلى مثل هذا الغرر البعيد الذي يعمق فيه صاحبه، وأبعد عن طريق النجاة، والبعيد عن الحق، أو الثواب.وفي البقرة: {لا يقدرون مما كسبوا} على شيء من التفنن في الفصاحة، والمغايرة في التقديم والتأخير، والمعنى واحد. اهـ. .قال أبو السعود: {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ}لعل هؤلاء القائلين بعضُ المتمردين العاتين الغالين في الكفر من أولئك الأممِ الكافرة التي نُقِلت مقالاتُهم الشنيعة دون جميعهم كقوم شعيبٍ وأضرابِهم ولذلك لم يُقل وقالوا: {لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ في مِلَّتِنَا} لم يقنَعوا بعصيانهم الرسلَ ومعاندتهم الحقَّ بعد ما رأوا البيناتِ الفائتةَ للحصر حتى اجترأوا على مثل هاتيك العظيمةِ التي لا يكاد يحيط بها دائرةُ الإمكانِ فحلفوا على أن يكون أحدُ المُحالَيْن، والعَودُ إما بمعنى مطلق الصيرورة أو باعتبار تغليبِ المؤمنين على الرسل، وقد مر في الأعراف وسيأتي في الكهف: {فأوحى إِلَيْهِمْ} أي إلى الرسل: {رَّبُّهُمْ} مالكِ أمرهم عند تناهي كفرِ الكفرة وبلوغِهم من العتو إلى غاية لا مطمَعَ بعدها في إيمانهم: {لَنُهْلِكَنَّ الظالمين} على إضمار القولِ أو على إجراء الإيحاءِ مُجراه لكونه ضربًا منه.{وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض} أي أرضَهم وديارَهم عقوبةً لهم بقولهم: لنُخرجَنّكم من أرضنا كقوله تعالى: {وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مشارق الأرض ومغاربها}: {مّن بَعْدِهِمْ} أي من بعد إهلاكِهم، وقرئ {ليُهلكَن} و{ليُسكِنَنّكم} بالياء اعتبارًا لأوحى، كقولهم: حلف زيد ليخرُجَنّ غدًا: {ذلك} إشارةٌ إلى الموحى به وهو إهلاكُ الظالمين وإسكانُ المؤمنين ديارَهم أي ذلك الأمرُ محققٌ ثابت: {لِمَنْ خَافَ مَقَامِى} موقفي، وهو الموقفُ الذي يقف فيه العبادُ يوم يقومُ الناسُ لرب العالمين، أو قيامي عليه وحفظي لأعماله، وقيل: لفظُ المقام مُقحَمٌ: {وَخَافَ وَعِيدِ} وعيدي بالعذاب أو عذابيَ الموعودَ للكفار، والمعنى أن ذلك حقٌّ للمتقين كقوله: {والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ}{واستفتحوا} أي استنصروا الله على أعدائهم كقوله تعالى: {إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الفتح} أو استحكموا وسألوه القضاءَ بينهم من الفتاحة وهي الحكومةُ كقوله تعالى: {رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق} فالضميرُ للرسل، وقيل: للفريقين فإنهم سألوا أن يُنصَر المحِقُّ ويهلَك المبطل، وهو معطوفٌ على {أوحى إليهم} وقرئ بلفظ الأمرِ عطفًا على {لنهلكن الظالمين}، أي أوحى إليهم ربهم لنُهلِكَنّ، وقال لهم: {استفتِحوا وَخَابَ} أي خسِر وهلك: {كُلّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ} متّصفٍ بضد ما اتصف به المتقون، أي فنُصروا عند استفتاحِهم وظفِروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كلُّ جبارٍ عنيد، وهم قومُهم المعاندون فالخيبةُ بمعنى مطلقِ الحِرمان عن المطلوب، أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعُمون أنهم على الحق، أو استفتح الكفارُ على الرسل وخابوا ولم يُفلحوا، وإنما قيل: وخاب كلُّ جبار عنيد ذمًا لهم وتسجيلًا عليهم بالتجبّر والعِناد لا أن بعضَهم ليسوا كذلك وأنه لم يُصبْهم الخيبةُ، أو استفتحوا جميعًا فنُصر الرسلُ وأُنجِز لهم الوعدُ وخاب كلّ عاتٍ متمردٍ، فالخيبةُ بمعنى الحرمان غِبَّ الطلب، وفي إسناد الخيبةِ إلى كل منهم ما لا يخفى من المبالغة.{مِّن وَرَائِهِ جَهَنَّمُ} أي بين يديه فإنه مُرصَدٌ لها واقفٌ على شفيرها في الدنيا مبعوثٌ إليها في الآخرة، وقيل: من وراء حياتِه وحقيقتِه ما توارى عنك: {ويسقى} معطوف على مقدر جوابًا عن سؤال سائلٍ، كأنه قيل: فماذا يكون إذن؟ فقيل: يلقى فيها ويُسقى: {مِن مَّاء} مخصوصٍ لا كالمياه المعهودة: {صَدِيدٍ} وهو قيحٌ أو دمٌ مختلط بمِدّة يسيل من الجرح، قال مجاهد وغيره: هو ما يسيل من أجساد أهلِ النار، وهو عطفُ بيانٍ لما أُبهم أولًا ثم بُيّن بالصديد تهويلًا لأمره وتخصيصُه بالذكر من بين عذابِها يدور على أنه من أشدّ أنواعِه.{يَتَجَرَّعُهُ} قيل: هو صفةٌ لماءٍ أو حالٌ منه والأظهر أنه استئنافٌ مبنيٌّ على السؤال، كأنه قيل: فماذا يفعل به؟ فقيل: يتجرعه، أي يتكلف جَرْعه مرة بعد أخرى لغلبة العطشِ واستيلاء الحرارة عليه: {وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ} أي لا يقارب أن يسيغه فضلًا عن الإساغة بل يغَصّ به فيشربُه بعد اللتيا والتي جرعةً فيطول عذابُه تارةً بالحرارة والعطش وأخرى بشربه على تلك الحالِ، فإن السَّوغَ انحدارُ الشراب في الحلق بسهولة وقَبولِ نفس، ونفيُه لا يوجب نفيَ ما ذكر جميعًا، وقيل: لا يكاد يدخُله في جوفه، وعبّر عنه بالإساغة لما أنها المعهودةُ في الأشربة وهو حالٌ من فاعل يتجرّعه أو من مفعوله أو منهما جميعًا: {وَيَأْتِيهِ الموت} أي أسبابُه من الشدائد: {مّن كُلّ مَكَانٍ} ويُحيط به من جميع الجهات أو من كل مكان من جسده حتى من أصول شعرِه وإبهامِ رجله: {وَمَا هُوَ بِمَيّتٍ} أي والحالُ أنه ليس بميت كما هو الظاهرُ من مجيء أسبابِه لاسيما من جميع الجهاتِ حتى لا يتألمُ بما غشِيه من أصناف المُوبقات: {وَمِن وَرَائِهِ} من بين يديه: {عَذَابٍ غَلِيظٍ} يستقبل كلَّ وقت عذابًا أشدَّ وأشق مما كان قبله، ففيه دفعُ ما يُتوهم من الخِفّة بحسب الاعتيادِ كما في عذاب الدنيا، وقيل: هو الخلودُ في النار، وقيل: هو حبسُ الأنفاس، وقيل: المرادُ بالاستفتاح والخيبةِ استسقاءُ أهلِ مكةَ في سِنيهم التي أرسلها الله تعالى عليهم بدعوته عليه الصلاة والسلام وخيبتهم في ذلك، وقد وعَد لهم بدلَ ذلك صديدَ أهل النار.{مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبّهِمْ}أي صفتُهم وحالُهم العجيبةُ الشأنِ التي هي كالمثل في الغرابة، وهو مبتدأٌ خبرُه قوله تعالى: {أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ} كقولك: صفةُ زيدٍ عرضُه مهتوكٌ ومالُه منهوب، وهو استئنافٌ مبنيٌّ على سؤال من قال: ما بالُ أعمالِهم التي عمِلوها في وجوه البرِّ من صلة الأرحامِ، وإعتاقِ الرقاب، وفداءِ الأسارى، وإغاثةِ الملهوفين، وقرى الأضياف، وغير ذلك مما هو من باب المكارم حتى آل أمرُهم إلى هذا المآل؟ فأجيب بأن ذلك كرماد: {اشتدت بِهِ الريح} حملتْه وأسرعتْ الذهاب به: {فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ} العصْفُ اشتدادُ الريحِ وصف به زمانُها مبالغةً، كقولك: ليلةٌ ساكرةٌ وإنما السكورُ لريحها شُبّهت صنائعُهم المعدودةُ لابتنائها على غير أساسٍ من معرفة الله تعالى والإيمان به والتوجّه بها إليه تعالى برماد طيّرته الريحُ العاصفةُ، أو استئنافٌ مسوقٌ لبيان أعمالِهم للأصنام، أو مبتدأٌ خبرُه محذوفٌ كما هو رأيُ سيبويه أي فيما يتلى عليك مَثلُهم، وقوله: {أعمالُهم} بدلٌ من {مَثَلُ الذين}، وقوله: {كرماد} خبرُه: {لاَّ يَقْدِرُونَ} أي يوم القيامة: {مِمَّا كَسَبُواْ} من تلك الأعمال: {على شَيء} ما، أي لا يرَوْن له أثرًا من ثواب أو تخفيفِ عذابٍ كدأب الرماد المذكور، وهو فذلكةُ التمثيل، والاكتفاءُ ببيان عدمِ رؤيةِ الأثر لأعمالهم للأصنام مع أن لها عقوباتٍ هائلةً للتصريح ببطلان اعتقادِهم وزعمِهم أنها شفعاءُ لهم عند الله تعالى وفيه تهكّمٌ بهم: {ذلك} أي ما دل عليه التمثيلُ دَلالةً واضحةً من ضلالهم مع حُسبانهم أنهم على شيء: {هُوَ الضلال البعيد} عن طريق الصواب أو عن نيل الثواب. اهـ.
|